Thursday, February 26, 2015

بنسافر ليه (*): الله

دهب، جنوب سيناء - ديسمبر 2014:

أتعلم ما المدهش في الغطس؟

في لحظة ما أنت فوق سطح الماء، ترى البشر على الشاطئ بمختلف أجناسهم و مللهم، تراقبهم من بعيد محاولا تخيل كل ما تحمله عقولهم من أفكار ومعتقدات وهموم، وكل ما في قلوبهم من مشاعر وذكريات.. بشر قل عددهم أو كثر، كل مشغول بما يهتم به. ما بين عمال المقاهي المطلة على الشاطئ بحركتهم المحمومة خدمةً لزبائنهم، أو مدربي غطس منهمكون في تجهيزات معداتهم، أو سياح يستمتعون يوقتهم بما يقتضيه مزاجهم..

في اللحظة التالية تماما، أنت تحت سطح الماء، محاط بالأزرق من كل الجوانب. أزرق ليس كمثله أزرق. بكل درجاته و تدريجاته. بدأً بدرجة إنعكاس لون السماء على سطح الماء، وصولًا للأسود في الأعماق السحيقة. مُهيب، لكنه يبرز ألوان الأسماك والشعب المرجانية ببراعة تخطف الأنفاس. من الظلم تسمية "عالم ما تحت الماء". إنها "عوالم". لكل فصيل من الأسماك عالمه، ولكل شُعب مرجاني عالمه. 

هنا - ومن بين كل ما قد يدركه عقلك وقلبك - تدرك معنى: المُصور. المُبدع. البارئ. الرّزّاق. الوليّ. المُحصي. الغَنيّ. البديع.

****

بحر الرمال، واحة سيوة - نوفمبر 2014:

أتعلم لما قد يدفع البعض مئات الجنيهات مقابل التخيم ليلة واحدة في الصحراء؟

حسنا، ليس هناك سبب واحد، إنما أسباب متعددة. سأذكر لك منها واحد فقط. النجوم! أن تحاط تماما بكل ذلك العدد اللانهائي من النجوم والشهب والأفلاك. أن ترى المَجرّة بأكملها بعينك المجردة. أنجمٌ لانهائية من فوقك، وصحراءٌ لانهائية من تحتك، وإنت محاصر بينهما! 

هنا ترى الوسع. الكبير. العظيم. مَالك المُلك. المَلك. الباسط. المُهيمن. القادر.
****

جبل موسى، جنوب سيناء - ديسمبر 2014:

أتعلم ما المُبهر في الجبال؟ 

الجبال بذاتها! شئٌ ما أعظم من الشموخ المُجرد المُجسد في كل صخرة مهما كبُرت أو صغُرت. التعريجات الصخرية المُكونة للقمم، لا تعلم على وجه الدقة إلما إنجذابها، الأرض؟ أم السماء؟ مُهيبة. لايمكن الإستهانه بها.

هنا تُحاط بالجبار. القهار. المُتكبر. العليّ. القوي. القادر. المتين. المُقتدر. المُتعال. العظيم.


****

جزيرة النباتات، أسوان - فبراير 2015:

 أتعلم مدى إندهاش عقل دائم التفكير في مفارقات الماضي والحاضر؟

هل كانا يعلمان أن ذلك الجنين برحمها - إبنتهما البكر- ستقف في نفس المكان بعد 27 عام من تاريخ إلتقاطهما لهذه الصورة؟ هل خطر ببالهما ما قد يدور في عقلها وهي تتأمل صورتهما؟ هل حاولا التخمين؟ لأي مدى كان من الممكن أن يقارب تخمينهما الواقع؟ هل خطر ببالهما أيا مما مرا به سويا خلال الـ25 العام اللاحقة لتاريخ الصورة؟ هل كانا مدركين لمدى تأثير كل قرار إتخذوه، وكل كلمة آمنوا بها، وكل فكرة إعتنقوها على جنينهما الأول هذا منذ تلك اللحظة، حتى يأتي الآن ليقف في نفس المكان بكل ما برأسه وقلبه من إزدحام؟ هل...؟ هل...؟ هل...؟

قد تجد بعض الإجابات. والبعض هذا كافي لتدرك وتعي به أنه هو مُدبر الأمر. الوكيل. الخبير. اللطيف. العليم. البصير. الوليّ. الهادي.


****

تلك الدقائق التي تبقي فيها رأسك تحت الماء، أو متأملا للنجوم أو للجبال، تجعلك تدرك الكم الهائل الغير نهائي من العوالم و الحيوات التي تعيش معنا على نفس الكوكب، وأن عالمك - بكل ما به من تفاصيل - هو عالم متناهي الصغر. ولأن مشاكلك ومعاناتك جزء أكثر صغرا من عالمك الصغير هذا..

****

كنت أتعجب ممن يقول: "أريد السفر لأعرف الله".. وقتها كنت - ومازلت - مؤمنة أن الله يُعرف في أي مكان وأي زمان. بنفس درجة تعجبي في كل مرة أسمع أحدهم يردد الحديث النبوي: "لله تسعة وتسعون اسما، من أحصلها دخل الجنة"، ثم يتباهى بطريقة إلقائه لاسمائه سبحانه بترتيب مراعي للقافية. الله لا يعاملنا بالعد ولا بالكم! إنما هو الإدراك والوعي والإيمان!

إلى أن أدركت -خلال سفري - أن لله أوجه عدة يُرى بها. وأن إحصائها يتطلب جهد وتدبر وتفكر وسعي في مناكبها أكثر من مجرد سردهم بترتيب ذو لحن موسيقي.

****

****

(*) من وحي أول مشاركة لي مع ولـ  +Terhal ترحال :