.. واذا كان الشئ بالشئ يذكر، فإن هجوم صلاح الدين على معاقل الحشاشين كان خطأ فادحا. فلم يكن الحشاشون فرقة بقدر ما كانوا فكرة، ولو قضي صلاح الدين على هؤلاء الحشاشين اللذين هاجمهم لظهر حشاشون كثيرون بعد ذلك. ولكن الخطوة التي فعلها صلاح الدين بعد ذلك كانت الحل الوحيد للقضاء على مشكلة الحشاشين. وهذه الخطوة هي بناء جيش قوي من أبناء مصر، مطعم بفرق عربية، وعلى رأس الجيش قادة مدربون على الحرب وقادرون عليها. وعندما بدأ زحف صلاح الدين من القاهرة أخذ وقتا طويلا، ولكنه لم يتوقف إلا في القدس، وعندما دخل القدس وصلى مع جنوده في المسجد الاقصى، كانت هذه هي بداية النهاية لدولة الحشاشين.
لقد ظهر الحشاشون في عصر الانحطاط. وعلا نجمهم في زمن الهزيمة، فاصبحت كلمتهم هي العليا في أيام الانكسار، وكانت الأسباب التي قامت فرقتهم على أساسها أن الأمة في حالة إنهيار، والنظم العربية في حالة استسلام، وإنهاء سبب الهزيمة وزوالها يؤدي إلى تحقيق النصر. ولكن ها هو الصلاح الدين يقلب الموازين، وها هو جيشه العظيم يزحف من القاهرة فيفتح القلاع، وتسقط في يده المدن، وها هم الاسرى الصليبين بالألوف مقيدون بالأغلال يتهادى موكبهم في شوارع دمشق والقاهرة، وها هي أعلام النصر ترفرف من جديد. وها هي الروح تعود إلى الأمة الميتة، والنبض يعود إلى الشارع العربي الذي كان قد تعفن، وفاحت رائحته منذ زمن بعيد.
لقد ضرب صلاح الدين الفكرة في الصميم، وانزوى الحشاشون بعدها في مناطقهم، وفقدوا بريقهم السابق، ولم يعد يهتم بهم أحد، أو يخشاهم أحد.
وتآكلت فرقة الحشاشين طوال العهد الأيوبي، فلما قامت المماليك، كان من السهل على الملك الظاهر بيبرس كسر شوكتهم والقضاء علي دولتهم وسحقهم حتى العظام. ولكن الحشاشين الذين حاربهمم بيبرس وقضى عليهم، لم يكونوا هم أنفسهم الحشاشين الذين كانوا يحتلون الساحة قبل مجئ صلاح الدين، أو بمعنى أصح قبل انتصاره.
كانوا مجموعة من الأرزقية، أشبه بأعضاء حزب الكهرباء هذه الأيام. لقد أفقدهم الانتصار أسباب دعوتهم وأسباب قوتهم، وكان وجود الصليبين في بلاد العرب، وأخذ الجزية منهم، وإذلالهم على مرأى ومسمع من حكامهمم هو السبب الذي جعل الحشاشين في أعلى مكان. أما الان، فقد انتهى أمرهم، وكان القضاء عليهم تحصيل حاصل. ونجحت أول حملة قادها الظاهر بيبرس في القضاء عليهم، ولم تنجح مئات الحملات التي شنها ضدهم حكام الأمس وإمارات ما قبل الانتصار.
وما أشبه الليلة بالبارحة، لعل السبب في انتشار الفرق المتطرفة الآن، هو هزيمة الأمة كلها على يد ثلاثة ملايين كلب يهودي استطاعوا انتزاع فلسطين وهضبة الجولان. ولذلك فأي حرب ضدهم لن تجدي مادام صلاح الدين لم يظهر بعد، وما دامت الأمة في حالة إنهيار، وبعضها يبحث عن حل وسط على موائد المفاوضات.
والأمم تأكل نفسها إذا لم تسطع أن تأكل أعدائها. وهذه الفرق المتطرفة لا تظهر إلا في زمن العجز، وفي عصور الضعف، وعندما يصاب الناس بالوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
إنها حالة تتكرر كثيرا، وليس من سبيل للخروج منها إلا عن طريق واحد. وإذا أردت أن تعرف الحل، فاقرأ هذه السطور من تاني!
من كتب: مصر من تاني
للكاتب: محمود السعدني
اصدار: دار الشروق
No comments:
Post a Comment