لاكثر من مرة أُسأل عما سأقوله لنفسي إذا ما قابلت النسخة القديمة منها، نسخة مني تصغر الحالية بخمسة عشر عام أو أكثر. وفي كل مرة كان عقلي يتوقف عند نسخة الجامعة أو الثانوية العامة، فلا يتمكن من الذهاب لأبعد مما كان عمري ١٧-٢٠ عاما (وهو ما يصغر النسخة الحالية بما يقارب الخمسة عشر عاما). فماذا عن نفسي المراهقة أو الطفلة إذا؟
تنتشر منشورات، مقالات، أو حتى كتب تحت عنوان "نوستالجيا جيل الثمانينات" كل حين وآخر. أتصفحها أحيانا لأجد أن قلة فقط تعيد لي ومضة خاطفة من طفولتي أو مراهقتي. فتفشل تلك المنشورات في إنعاش ذاكرتي المهترئة بما هو أكثر قليلا من مجرد ومضة خاطفة.
أحاول تبرير ذلك بأني من مواليد أواخر الثمانينات، فبالتالي لا أنتمي لهذا الجيل، بل لجيل التسعينات. فخلال تلك الفترة أصبح لي وعي مدرك لما يدور حولي. إلا أن منشورات "نوستالجيا التسعينات" لا تسعف ذاكرتي بما هو أكثر مما تسعفها به "نوستالجيا الثمانينات".
قد يكون نشأتي خارج مصر أول عشر سنوات من عمري هو السبب إذا؟ ربما. ألذلك أنا بلا ذاكرة جمعية أشاركها مع أبناء جيلي؟ احتمال.
فإذا كان ذلك عن سنوات الطفولة، فماذا عن سنوات المراهقة؟
بالأمس، كنت أعيد تجديد مكتبة البيت الرئيسية.
ببيتنا مكتبتان، الرئيسية بالصالة، ٩٥٪ مما بها من كتب مملوك لأبي، والبقية كتب لأمي. المكتبة الأخرى أصغر قليلا، بغرفتي، معظمها كتبي، وبعضا من كتب أبي.
تجديد المكتبة، تطلب بطبيعة الحال إعادة فرز للكتب. أمر على عشرات الكتب المكدسة بحرص وروية، لأقرر أيهما يستحق استمرار الاحتفاظ به، وأيهما يمكن التخلص منه لإفساح المجال لكتب جديدة. عملية ميكانيكية، أصبحت أجيدها منذ المرة الأولى التي هان علي فيها التخلص من كتاب واحد بلا قيمة. منذ أن أدركت أن بعض الكتب بلا قيمة، وهو عكس ما تعلمته من أبي تماما.
فواحدة من أهم ما تعلمته منه، هو حب اقتناء الكتب. حب القراءة وإجادتها تعلمته من أمي (أدركت الفارق مؤخرا، إذ كنت أخلط دائما بين الإثنين، فأنسب حبي للقراءة لأبي). أبي كان مولعا باقتناء الكتب. كان يحكي دائما عن كيف كان يدخر من مصروفه -عندما كان طالبا- ليذهب آخر كل شهر لمركز ترجمة ما أو مركز ثقافي ما أو دار نشر ليشتري بضعة كتب مستوردة من الاتحاد السوفيتي (عندما كان هناك اتحادا سوفيتيا). الأمر الذي استمر معه حتى أصبح أبا لأربعة أطفال، يصطحبهم معه سنويا لزيارة معرض الكتاب، ويطلق لهم حرية اختيار ما أرادو من كتب. لا أذكر أن رفض لي شراء أي كتاب، رغم حالنا الميسور قليلا، ورغم عدم ادراكي أنا أو أيا من إخوتي لعنصر المال أو التكلفة. كانت تلك الزيارة بمثابة عيد حقيقي لنا. بهجة ما بعدها بهجة.
أبي كانت له عادة خصني بمشاركتها معه خلال عطلة الصيف. وهي إرسالي في مهمة، شبه يومية، لشراء جريدة الأهرام والتنقيب عن أي إصدارات جديدة لمكتبة الأسرة. "بصي عند البياع على كتب مكتبة الأسرة، الكتاب اللي تلاقيه مش عندنا هتيه."
طريقة إنتقاء عجيبة للكتب، جعلتني أؤمن أن علي أن أتذكر أي كتاب لدينا حتى آتي بكتاب آخر جديد، دون أن أهدر ثمنه على كتاب مكرر. فقررت أن أتولى مسؤلية حصر كل الكتب التي نملكها (وقد كانت مهولة العدد)، فلا يمكن السماح لإهدار أي مكان يمكن أن يحتوي كتاب جديد، على كتاب مكرر.
مهمة جليلة ولا يستهان بها، في حياة طفلة مراهقة.
وسط انهماكي في فرز كتب المكتبة، يسترعي انتباهي كومة من بضعة كتب، بعضها متماسك والآخر مهترء تماما. مرصوصون في زاوية غير مرئية من رف المكتبة. لا ينتمون لما يجاورهم من كتب (إذ تعلمت من خبرات أمي السابقة في إدارة مكتبة الكلية التي كانت تُدرس بها، أن ترص الكتب حسب فئتها). تلك كانت كتب مراهقتي! تلك كانت كتب اشتريتها بنفسي من معرض الكتاب، أو اشتراها لي أحد أبوي (الأغلب أبي). تلك كتب كنت اقضي معها أغلب وقت فراغي طوال فترة مراهقتي. ما أن بدأت بفرها واحدا تلو الآخر، حتى انساب شلال من ذكريات تلك الفترة، أواخر التسعينات - أولائل الألفينيات، فترة مراهقتي.
كل كتاب منهم له ذكرياته الخاصة معي. له ململسه الخاص، رائحته الخاصة، احساسه الخاص الذي كان يثيره في آن ذاك. إلا أن أخصهم، كان كتاب صغير جدا، ما إن فتحت غلافه حتى فوجئت باسمي موقع على الصفحة الأولى بخط يد أبي. كانت عادته أن يوقع اسمه "رفعت شديد" على كل كتاب يمكله. تلك عادة أخرى ورثتها منه، فاصبحت أوقع كتبي باسمي "ياسمين رفعت". هنا أجد كتابا من كتبي موقعا باسمي مصحوبا بلقب العائلة بيده هو.
----
تنتشر منشورات، مقالات، أو حتى كتب تحت عنوان "نوستالجيا جيل الثمانينات" كل حين وآخر. أتصفحها أحيانا لأجد أن قلة فقط تعيد لي ومضة خاطفة من طفولتي أو مراهقتي. فتفشل تلك المنشورات في إنعاش ذاكرتي المهترئة بما هو أكثر قليلا من مجرد ومضة خاطفة.
أحاول تبرير ذلك بأني من مواليد أواخر الثمانينات، فبالتالي لا أنتمي لهذا الجيل، بل لجيل التسعينات. فخلال تلك الفترة أصبح لي وعي مدرك لما يدور حولي. إلا أن منشورات "نوستالجيا التسعينات" لا تسعف ذاكرتي بما هو أكثر مما تسعفها به "نوستالجيا الثمانينات".
قد يكون نشأتي خارج مصر أول عشر سنوات من عمري هو السبب إذا؟ ربما. ألذلك أنا بلا ذاكرة جمعية أشاركها مع أبناء جيلي؟ احتمال.
فإذا كان ذلك عن سنوات الطفولة، فماذا عن سنوات المراهقة؟
----
بالأمس، كنت أعيد تجديد مكتبة البيت الرئيسية.
ببيتنا مكتبتان، الرئيسية بالصالة، ٩٥٪ مما بها من كتب مملوك لأبي، والبقية كتب لأمي. المكتبة الأخرى أصغر قليلا، بغرفتي، معظمها كتبي، وبعضا من كتب أبي.
تجديد المكتبة، تطلب بطبيعة الحال إعادة فرز للكتب. أمر على عشرات الكتب المكدسة بحرص وروية، لأقرر أيهما يستحق استمرار الاحتفاظ به، وأيهما يمكن التخلص منه لإفساح المجال لكتب جديدة. عملية ميكانيكية، أصبحت أجيدها منذ المرة الأولى التي هان علي فيها التخلص من كتاب واحد بلا قيمة. منذ أن أدركت أن بعض الكتب بلا قيمة، وهو عكس ما تعلمته من أبي تماما.
فواحدة من أهم ما تعلمته منه، هو حب اقتناء الكتب. حب القراءة وإجادتها تعلمته من أمي (أدركت الفارق مؤخرا، إذ كنت أخلط دائما بين الإثنين، فأنسب حبي للقراءة لأبي). أبي كان مولعا باقتناء الكتب. كان يحكي دائما عن كيف كان يدخر من مصروفه -عندما كان طالبا- ليذهب آخر كل شهر لمركز ترجمة ما أو مركز ثقافي ما أو دار نشر ليشتري بضعة كتب مستوردة من الاتحاد السوفيتي (عندما كان هناك اتحادا سوفيتيا). الأمر الذي استمر معه حتى أصبح أبا لأربعة أطفال، يصطحبهم معه سنويا لزيارة معرض الكتاب، ويطلق لهم حرية اختيار ما أرادو من كتب. لا أذكر أن رفض لي شراء أي كتاب، رغم حالنا الميسور قليلا، ورغم عدم ادراكي أنا أو أيا من إخوتي لعنصر المال أو التكلفة. كانت تلك الزيارة بمثابة عيد حقيقي لنا. بهجة ما بعدها بهجة.
----
طريقة إنتقاء عجيبة للكتب، جعلتني أؤمن أن علي أن أتذكر أي كتاب لدينا حتى آتي بكتاب آخر جديد، دون أن أهدر ثمنه على كتاب مكرر. فقررت أن أتولى مسؤلية حصر كل الكتب التي نملكها (وقد كانت مهولة العدد)، فلا يمكن السماح لإهدار أي مكان يمكن أن يحتوي كتاب جديد، على كتاب مكرر.
مهمة جليلة ولا يستهان بها، في حياة طفلة مراهقة.
----
كل كتاب منهم له ذكرياته الخاصة معي. له ململسه الخاص، رائحته الخاصة، احساسه الخاص الذي كان يثيره في آن ذاك. إلا أن أخصهم، كان كتاب صغير جدا، ما إن فتحت غلافه حتى فوجئت باسمي موقع على الصفحة الأولى بخط يد أبي. كانت عادته أن يوقع اسمه "رفعت شديد" على كل كتاب يمكله. تلك عادة أخرى ورثتها منه، فاصبحت أوقع كتبي باسمي "ياسمين رفعت". هنا أجد كتابا من كتبي موقعا باسمي مصحوبا بلقب العائلة بيده هو.
متى وقعه؟ لما وقعه؟ لماذا اختار لقب العائلة بدلا من اسمه هو؟ لم يكن شائعا أبدا أن يصاحب اسمي لقب العائلة، إنما اسمه هو كان المصاحب دائما. فلما هذه المرة؟!
وذلك الكتاب تحديدا، لم يكن من اصدارات مكتبة الأسرة. ولا اعلم يقينا إن كان من غنائم معرض الكتاب، أم كان من آثار تلك العام التي عشتها مع جدي وجدتي (رحمهما الله) وخالتي. فهو إذا من خالتي، هي من اشترته لي ضمن ما كانت تشتريه لي من اصدارات "روايات مصرية للجيب". ذكرى أخرى من ذكريات أوائل مراهقتي، ومضة أشاركها مع أبناء جيلي ممن فتنو بمغامرات فلاش والمواطن المطحون.
صورة الغلاف تبعث بعض ومضات من حالة اندهاش وإعجاب بسحر ما غامض. أقرر أن أقرأ هذا الكتاب الليلة قبل النوم. لأجد مع كل حبكة وتفصيلة في القصة، انسياب شديد اللطف لإحساس طفلة ذات ١٢ عاما بنشوة اكتشاف سحر القصة والحكي لأول مرة.
لقد وجدتها! وجدت نسختي القديمة الضائعة!
ذلك الكتاب الهزيل، ذو اللغة الفصحى السهلة، والكلمات كاملة التشكيل، والحبكة التقليدية شديدة البساطة، والرسومات متفجرة الحركة ذات الألوان شديدة التشبع، كان بمثابة آلة زمن أعادتني لما كنت أحاول تذكره عن نفسي. فتاة سهلة الانبهار بالحيلة الذكية غير اللئيمة، ذات خيال جامح شره، وإفتتان بلا حدود بسحر الحكاية.
لا أذكر أين سمعت مقولة، "المزيكا عاملة زي ألة الزمن. أغنية واحدة قادرة ترجعنا بالزمن لوقت ما أو حالة ما في ماضي"، أو شيء من هذا القبيل. يبدو أن للكتب نفس التأثير.
----
منذ عدة أيام كنت أشاهد فيلم The Adam Project. فيلم خفيف للتسلية. إلا أن جملة البطل لنسخته الأصغر التي قابلها عبر السفر بالزمن تستوقفني لبرهة:
"I spent thirty years trying to get away from the me that was you and, I'll tell you what, kid, I hate to say it, but you were the best part all along."
لم أعي تماما ما كان يقصده. أعتقد إني أعي لآن.
No comments:
Post a Comment