|
شارع المعز لدين الله الفاطمي |
أعشق الاماكن الأثرية.. تستهويني زيارتها جداً.
تترك لي مساحة رائعة من ممارسة هوايتي المفضلة في التخيل..
مسجد السلطان حسن، استطيع أن أرى بعين الخيال اولئك المشايخ وقد تمركز كلٍ منهم بإيوانٍ، وحوله تلاميذه. أربعة مشايخ و مجموعاتهم الأربعة في نفس المكان لا يفصل بينهم إلا صحن، وكل فرقة جلست تدرس مذهباً.
اتخيل طالبا علم، أصدقاء. قد اعتادوا أن يذهبا للمسجد سويا. دخلا الباب سويا، مشيا إلى الصحن سويا، ثم افترقا، كلٌ إلى إيوانه و شيخه و مدرسته. لأن احدهما حنبلي المذهب، بينما الآخر شافعي؛ ذلك ليلتقيا مرة أخرى وقت الصلاة، ثم يعودا من حيثُ أتيا بعد انتهاء الدروس.
أتخيل الجنود، اسمع صوت صياحهم الحماسي، و إصطكاك اسلحتهم. أري النظرات المرسومة على وجوههم وهم يتابعون اقتراب اسطول العدو، من خلف أسوار قايتباي.
أتخيل الحركة المضطربة لرجل يحمل شعلة ليساعد رفقائه المرتعبون على التخفي في قبو مظلم اسفل الكنيسة المعلقة، لما شعروا بجنود الحاكم بالقرب منهم. استطيع سماع همساتهم.. أشم رائحة الخوف والرعب في الجو.
لك أن تتخيل حجم الحماس و الإثارة المستمدة من مكان كشارع المعز. أحقاب مختلفة متداخلة، ابتداء بالفاطمي، حتى إلى بدايات العصر الحديث.
بعدها بأقل من اسبوعين، وفي الزيارة الثالثة، بدأ الإعياء!
****
أول مشهد: الساعة لم تتجاوز العاشرة صباحاً. إثنين أو ثلاثة من رجال الشرطة، ما بين "رتب" و عساكر، متكأون على حاجز حديدي عند مدخل الشارع من جهة الغورية، تماماً تحت لافتة زرقاء مكتوب عليها بلون فسفوري فاقع "ممنوع دخول السيارات الشارع من الساعة 9 صباحاً حتى العاشرة مساءً". ارتاح بإفتعال قليلا.. لست ساذجة، لكني اقدم افتراض حسن النية. حسناً يبدو أنه سيتاح لي الفرصة للتصوير بتمهل بدون مضايقات من مرور السيارات في هذا الشارع الضيق.
دقائق في عمق الشارع كانت كفيلة تماماً لإثبات أنه ارتياح مُفتعل، وأني ساذجة.. جداً! للمرة الـ... (نسيت العدد).. تخيلت أن مجرد وجود عربات ورجال الشرطة المنتشرة داخل الشارع و على مدخله كفيلة بمنع مخالفة قانونية كتسبب العربات الملاكي والنصف نقل و الموتوسيكلات بعمل ذلك المهرجان الشعبي!
اتغاضى عن أمر الشرطة كالعادة، واحاول التركيز في التصوير..
يلفت انتباهي الأصوات هذه المرة! صوت اذاعة القرآن الكريم الهامس من اللا مكان، بما يثيره في من ذكريات الطفولة خصوصا في الصباح.. بيت جدتي...
حديث امرأة تبدو من هيئتها انها من سكان المنطقة، موجهة حديثها لأخرى:"ازيك يا فلانة؟! فضلت استناكي امبارح عند (المنطقة الفلانية) وانت مجتيش!". ترد الاخرى، في محاولة لصد الهجوم:"معلش والله، أصل...".
ندخل في العمق أكثر..
مجموعة من الرجال بيدون وكأنهم انتهوا للتو من فتح محلاتهم..
- "تعالى هنا الشمس"
- "اه، الشمس حلوة من البرد دا"
- "عايز اكل كشري"
- "كشري بالشطة"
اقول لنفسي: "بيفكروا في الغدا دلوقتي؟! دا الظهر لسه ماأذنش!.. لا يكون الفطار؟!"
ندخل في العمق أكثر..
رجلان على قهوة، يبدو أن مرور ثلاث فتيات بكاميرات من امامه فرصة لاثبات شئ ما لصاحبه ولمن حوله:
- "ممكن صورة؟ صورة؟؟ صورة علشن الانتخابات!"
بسبب مرور سيارة، كنا نمشي "ورا بعض"، كنت متأخرة قليلا عن رفيقاتي، لكن استطعت سماع كلماته.. شككت أن اكون اخطات السمع. بعد ان تجاوزنا السيارة، سألتها: "هوا كان بيتريق؟؟!"
- "ايوه!.. امشي.. انا عملت نفسي مش واخده بالي!"
ندخل في العمق أكثر..
نحاول أن نبدأ موضوع جديد للحديث.. يقطع كلامنا "سرينة" سيارة ملاكي! ها قد عدنا لسذاجتي مرة اخرى! نسيت انه نوع من انواع الترف ان تتحدث لمن يلاصقك في الشارع ويكون قادر على سماع كلماتك!
كل ذلك وساعتين فقط مروا.. ساعتين في شارع ضيق، بالكاد تستطيع المرور بين زنقة السيارات القادمة من الإتجاهين. أصوات شكمانات الموتوسيكلات المُصم للاذان.. وروائح العادم التي تنفث في وجهك مباشرة لعدة دقائق حتى تستطيع السيارة المرور أو أن تستطيع أنت ايجاد مكان لتجاوزها بـ"جنبك"..
بعد ساعتين فقط.. بدأ الإعياء.. صُداع، زغللة في الرؤية، عدم القدرة على الكلام...
"ساعتين يا مفترين؟!! فين أيام ما الواحد كان بيلف بالـ6 و الـ8 ساعات البلد كلها، و يركب بالخمس مواصلات؟!.. فين أيام استنبول؟!"
****
استنبول! أنا محبتش استنبول! أنا حبيت الناس في استنبول.. بس!
البلد هناك نظيفة، منظمة، بس مش غنية زي القاهرة! 5 جوامع كبيرة ادخلهم هناك، و كلهم "اسطمبة" واحدة!! كوبي-بيست!! لكن رغم الزحام الشديد، ووجود حوالي المئات من الزوار، لكن الجامع من دول تلاقيه "بيبرق" من النظافة!!
محبتش استنبول! جبيت الناس في استنبول!..
****
ندخل في العمق أكثر..
مش عارفه ليه عندي احساس قوي إن كل محلات البقالة دي لسه فاتحة جديد! بما أنها فتحت مؤخرا، فغالبا، مشكوك في تراخيصها!
ماشي.. عادي.. خلي الناس تسترزق... طيب بالنسبة للناس اللى فارشة في الأرض وبتبيع مخلل؟!!
****
وصلنا الأخر.. أخر الشارع.. الحاكم بأمر الله...
ظلمت استنبول لما قولت إنها مش غنية؟!! جائز!..
لتقريب وجهة نظري، جرب تزور جامع زي المؤيد شيخ، اللى في الجانب الآخر من نفس الشارع، عند الغورية، بالقرب من باب زويلة. شوف كمية التراب بداخل المسجد دا! شوف كمية التراب على ملابسك بعد ما تخرج منه. وشوف كمية النقوش والنحت اللى في المسجد دا..
بعد كدا، اتجه مباشرة لمسجد الحاكم بأمر الله، و قارن. قارن كمية التراب، وقارن النقوش والنحت.
وصل الفرق بين القاهرة و استنبول؟؟
****
من حوالي سنة وأكثر، باسم يوسف تحدث عن نفس المشكلة... من أكثر من سنة!
****
الرجوع..
أذان العصر يرتفع مع تزامن المرور من أمام محلات الصاغة بأول الشارع
- "معاكي حاجة عايزه تبيعيها يا ****؟.. أيوة انت يا ****!"
تُسرع خطواتنا... يُعلي هو صوته:
- "ايوة بكلمك انت يا *** يا ****"...
هو بائع ذهب جالس أمام دكانه. منظر ثلاث فتيات، بشنطهم الضخمة الشبيهه بشنط طلبة الجامعة على أكتافهن و ظهورهن لا يمكن إخطائه ، ومن ثم افتراض أن "معاهم حاجة عايزين يبيعوها"! كذلك نبرة صوته و لهجته! هو لم يكن يحاول جذب "زبون"... هو اتخذ من موقعه من أمام دكانه ستار لأفعال اخرى.
لماذا هذه المرة قررت التحدث عنها؟ ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة!
هو لم يقل كلمات بذيئة. في مواضع أخرى، هي كلمات مديح. لكنها بنسبة لي وقتها أكثر الكلمات بذائةً وقبحاً.
يمكن بسبب أننا كنا في وضح النهار؟ العشرات من الناس حولنا سمعوا عوائه، ومع ذلك لم يقل له أحد "عيب!" ولو حتى بـ"زغرة"!
****
واحدة بتقولى أنا عايشة فى كندا برضه ومفيش تحرش فى الشوارع.
طبعًا ..صعب قوى حد يتحرش بحد غريب عنه ...جهارًا نهارًا فى الشارع.
لكن التحرش يتم مثلا فى العمل خاصة من المدير الذى يستغل أن الموظفة مش هتفتح فمها من أجل لقمة العيش، بيتم من الزميل أو الصديق اللى عاوز يجرب حظه، ممكن يتم من واحد البنت لسه متعرفة عليه لكن هو استعجل فى العلاقة... ممكن يتم فى الملاهى الليلة والديسكو خاصة عندما تسكر البنت وتكون مش مجمعة قوى إيه اللى بيحصل. فى كل هذه الأحوال البنت فى الغالب لا تبلغ الشرطة وبتكبر دماغها على الموضوع ويكفيها أن تنهر المتحرش أو تسكت خاصة فى حالة مدير العمل.
لكن الميزة التى يتميز بها المجتمع الكندى أن الواحدة لو قررت تبلغ وتعمل قضية بتأخد حقها تالت ومتلت... وهذا القانون الصارم هو الذى يوقف كثير من المتحرشين عن التحرش بالفتيات الغريبات اللاتى لا يعرفوهن أو اللى شكلهم مش بتوع الكلام ده (المحجبات مثلا)..
الأشياء تظهر غالبًا بغير حقيقتها... والكلام مش أحنا أحسن ولا هم أحسن. كل شعب وله خصائصه ..واحنا عندنا فى مصر مشاكل بالكوم بالفعل عاوزة حلول جذرية ..لكن لازم نفوق من عقدة الخواجة...أن كل حاجة فى الغرب رائعة وجميلة...وعندنا كل حاجة هباب. أو التطرف فى الاتجاه المقابل: المجتمع الغربى عفن ونريد كل شىء فى ثقافتنا حتى ولو غلط.
****
السحيمي.. بيت السحيمي!
كيف نسيته! بالحديقة الخلفية يوجد حائط به عدة صور (أذهبت الشمس معظم ألوانها) للبيت قبل و أثناء الترميم. مقارنة الصور بالواقع تعطي انطباع بحجم المجهود الذي تم بذله لاصلاح التصدعات.
حسناً، يبدو أن مهما بلغت درجة الانهيارات والتصدعات، القليل أو الكثير من العمل المتقن الجاد كفيلة بإصلاحه... قد يكون ذلك هو الحل.. أو حزء منه.. أو مجرد إشارة له!